قبل أن تفتح السماء جفونها، وقبل أن يرتسم أول خيط من نور الفجر على جبال “إحاحان” الهادئة، تكون “مي فاطمة” قد استيقظت، في بيت طيني صغير، تنسلّ من فراشها الذي يجاور موقدًا خامدًا، تتحسس خطواتها في العتمة، وتربط وشاحها حول رأسها كما تفعل منذ ثلاثين سنة، هي لا توقظها ساعة ولا يُنبهها هاتف، بل يوقظها شعور غريزي عميق، ممزوج بين الحاجة والواجب، بين الحب والخوف، بين الإيمان والصبر.
“مي فاطمة” الخمسينية، ليست فقط امرأة أمازيغية من دوار الزاوية، التابع لجماعة سيدي أحمد السايح بإقليم الصويرة، بل هي حارسة الصباحات الباكرة، ورفيقة شجرة الأرݣان في وحدتها ومقاومتها، وفي كل يوم تحاور ظلامًا لم ينكسر بعد، تصعد في صمت الطبيعة البكر، تغرس خطواتها بين حجارة وذكريات، وكلها أمل في أن تجد بين فروع الأرݣان المتشابكة ما يكفي من الثمار لسد الرمق، وسدّ الديون، ومواجهة الغد.
في عالم ينشغل بالتقنيات والأسواق والربح السريع، تعيش “مي فاطمة” إيقاعًا آخر، ببطء الريح، وبصبر الجذور، تقطف أرݣانها كمن يجمع كنوزًا سحرية من أرض تعرفها جيدًا، أرض كانت يومًا سخية، لكنها أصبحت اليوم بخيلة، تعاقب من لا يعرف لغة الصبر.
في هذا الركن المنسي من المغرب، تُكتب كل صباح حكاية بطلتها امرأة لم تُعلَن عنها نشرات الأخبار، لكنها تستحق أن تُروى، لأنها ببساطة تُقاوم لتعيش، وتحرس ذهب الأرض بيديها العاريتين.
صلاة الفجر في الغابة وبداية الحكاية
تغادر “مي فاطمة” منزلها الطيني قبل أذان الفجر، وعلى كتفها سلة من سعف النخيل، وتمتطي حمارها المخلص الذي يعرف الطريق إلى غابة الأرݣان عن ظهر القلب حتى في الظلام، تصل إلى أول الأشجار مع انبلاج الخيط الأبيض، تفرش منديلًا صغيرًا على الأرض، تؤدي صلاتها بخشوع بين الأشجار، ثم ترفع كفيها إلى السماء بالدعاء وبلسانها الأمازيغي: “يارب أد فلاغ تساهل تاويتاغت الرزق د البركة، تقيلتاغ غ السم ن إلكماضن أود وين إغردميون” ما يعني بالعربية “يارب ارزقنا الغلة والبركة، واحفظنا من لدغة عقرب أو سم أفعى”.
قبل أن تشرق الشمس، تبدأ معركتها الصامتة ضد الزمن، فالخروج في الظلمة ليس فقط لتجنّب لفح الشمس، بل أيضا اتقاء لزواحف تنشط نهارًا، ولضمان جني أكبر كمية من الثمار قبل أن تذبل الأرض بحرارة الصيف القاسية.
شجرة الأرݣان.. مقاومة تتحدى الجفاف
ليست “مي فاطمة” وحدها من تصارع الصعاب في سبيل الأرݣان، فهذه الشجرة الشامخة، التي تنمو في مناطق عدة بالمغرب، وعلى رأسها سوس،هي شجرة تقاوم تقلبات المناخ، وتحديات التصحر، وقسوة التربة الجافة، جذورها تغوص عميقًا في الأرض، وتمتد حتى 30 مترًا بحثًا عن الماء، وهو ما يجعلها حليفًا طبيعيًا ضد ندرة المياه، وأيقونةً للاستدامة الزراعية في زمن الاضطراب البيئي.
في العقود الأخيرة ومع تفاقم آثار الجفاف وتراجع التساقطات المطرية، تضاءلت مردودية الأرݣان، تؤكد “مي فاطمة” بلغتها الأمازيغية الجميلة وبأسى: “غاد إيزرين نكاتين أر نسمونا كيكان ن تكموت، ماش غيلاد بزيز أسا نسمونا يات تاسليت” وتقصد بالعربية “زمان كنا نجمع الكمية الكبيرة، اليوم بصعوبة نلقاو ما نملأو به السلة وحدة…”.
من حبة الأرݣان إلى قطرة الذهب السائل
حين تفرغ “مي فاطمة” من جمع الحبات المتساقطة على الأرض، تجلس تحت ظل الشجرة لترتيب ما جنته، ثم تضعه في أكياس تربطها بإحكام، وتحملها على ظهر الحمار عائدة إلى البيت، وبعد أن تجمع الكمية الكثيرة الدي يستغرق أسابيع تبدأ حكاية أخرى ومرحلة جديدة والمتمثلة في تكسير الحبات لاستخراج اللب، ثم الطحن، فالضغط اليدوي أو التقليدي لاستخراج الزيت، وهي عملية شاقة قد تستغرق عدة ساعات لاستخلاص لتر واحد فقط.
الشيء الذي يجعل من زيت الأرݣان أغلى الزيوت في العالم،في السنين الأخيرة، خصوصا بعد قلة التساقطات المطرية، حيث قد يتجاوز ثمن اللتر 400 درهم في السوق العالمية، لأسباب تكمن في ندرته، صعوبة استخراجه، وفوائده الصحية والتجميلية الكبيرة، ويستعمل كذلك هذا الذهب السائل في الطهي، كما يُستخدم في مستحضرات التجميل والعناية بالبشرة في أوروبا وآسيا وأمريكا.
الأسواق، التعاونيات.. والتفاوتات الصارخة
تشير “مي فاطمة” إلى مفارقة محزنة وملامحها توحي أنها غير راضية عن الوضع نظرا لتضحياتها وبلغتها الأمازيغية تشلحيت: “نكني أر نكّات تمارا، لكن الخيراد أر كيس ستفادن ميدن لي دار لانت الشركات ليتي صيفيدن س برا ن تمازيرت” وبالدريجة المغربية “حنا نتعبو، ولكن الربح الكبير كيمشي للي عندهم الشركات والتصدير”. وتضيف أن ما تزال نساء كثيرات من الإقليم يبعن حبات الأرݣان الخام في الأسواق الأسبوعية بثمن لا يتجاوز 3 دراهم للكيلوغرام، في حين تحقّق الشركات المصدّرة أرباحًا ضخمة.
ورغم بروز التعاونيات النسائية كحل تنموي، إلا أن الكثير منها يعاني من ضعف التسيير، قلة التكوين، وصعوبة الولوج إلى الأسواق، و بعض التعاونيات تحوّلت إلى واجهات دون أثر فعلي على تحسين دخل النساء أو ضمان استدامة المورد الطبيعي.
الأرݣان في مرآة التسويق.. بين المحلي والعالمي
في السنوات الأخيرة، عرف زيت الأرݣان شهرة عالمية، وأصبح منتوجًا يحمل علامة “بيو”، ما زاد من قيمته التصديرية، لكن محليًا، لا يزال الإقبال عليه ضعيفًا بسبب ارتفاع سعره مقارنة بزيوت أخرى، وهو ما يعكس ضعف ثقافة استهلاك المنتوجات المحلية لدى عموم المواطنين.
أما على مستوى التسويق الخارجي، فقد ساهم إدماج الأرݣان ضمن المنتوجات ذات الأصل الجغرافي المحمي في تعزيز مكانته دوليًا.
مي فاطمة.. وصبر الأمهات في زمن المناخ المتقلب
في نهاية كل يوم من البحث عن حبات أركان، تعود “مي فاطمة” إلى بيتها، تضع الأكياس بجوار المدفأة الطينية، وتحضر كأسا من الشاي بالعشوب، ثم تنظر من النافذة إلى الغابة التي تنام على صوت الريح، تبوح بهدوء بحب خالص لشجرة أركان: “كنبغي الأرݣان بحال وليدي، راه هو لي كيعطينا باش نعيشو، الله يجيب الشتاء باش يكثار ويرخاص فالثمن”.
في وجه الندرة، تبقى “مي فاطمة” عنوانًا للوفاء، وبين فروع الأرݣان الممتدة نحو السماء، تُكتَب فصول من الاستدامة بأيدي نساء لا يحملن سوى المحراث والدعاء.
عمر بيمورن